وثبــــــة الحيـــــــاة فــــــي رجـــــــل
في زقاقٍ من الأزقة المتاخمة لمرقد ربّاني هذه الأمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفي بيتٍ مستأجرٍ مساحته سبعون متراً يقطن رجلٌ معرضٌ عن دار غرور لا يبالي ببريق الشهرة وأضواء الإعلام، لم يهنأ من الدنيا بطائل ولم يركن إلى الدعة بهزيع، متحلياً بحياة الزهد متجهاً بنفسه صوب الورع، هي سلوكيات وممارسات لم ولن تكن متكلفة بل هي تلقائية، متجذرة في النفس، ونابعة من عمق الوجدان وصميم الضمير، فهي تجري معه مجرى الدم في العروق، اقتداءً بمن لاذ بجواره وتشرف بالانتساب له، عنيت بذلك المرجعية العليا المتمثلة بسماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (أدام الله ظله الوارف) فحسبك من هذا الرجل العظيم أنه تقلّد مقاليد الريادة في جيده وسط ظرفٍ مشحونٍ بالخطر، بعد أن بلغ الضغط السياسي ذروته، وارتفع البطش إلى أوجه، وأكاد أجزم أنه من أصعب الظروف التي مرت بها المرجعيات الإسلامية، فلم تكن الطريق سالكة أمامه بل كانت وعرة لما تخللها من عقبات، وشائكة بما تَحمّل كاهله من مسؤولية وقيادة، إذ أتته المرجعية وحطّت برحابه في مطلع التسعينات من القرن الماضي والتدهور مستشرٍ في جميع المجالات وعلى مختلف الأصعدة السياسية والدينية والاجتماعية والأخلاقية والسلوكية..، واتساع مظاهر فجة هجينة أذكاها وغذّاها وشجع عليها شياطين الحكم آنذاك، ناهيك عن ممارسات السلطة الوحشية بحق الطَليعة المؤمنة والثلة الصامدة، يضاف إلى ذلك حصارٌ اقتصاديٌ أنهك الناس وذهبَ بلبّهم، هذا كلّه وأكثر والسيد يعيش في ظل رقابة صارمة، وتحت إقامة جبرية ظالمة، إلا إن تلك المعوّقات_ التي لم نذكر منها إلا قليلاً من كثير - لم تذهب بهمته ولم تقلِّل من رغبته في خدمة المؤمنين والذود عن حياضهم، فلم يجد سماحته -وهو الأب الروحي لهم- فرصة سانحة ولا وسيلة ممكنة أو مناسبة إلا وأتبعها لخدمة الناس عموم الناس بمختلف طوائفهم، وبتنوع مشاربهم، وتشعب مذاهبهم، والتخفيف عن معاناتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، هذا إلى جانب مسؤوليته العلمية والتشريعية، فكان ومازال وسيبقى هذا الجهبذ يحمل في وجدانه وخلجات نفسه وحنايا روحه الدفاع عن مصلحة للعراق العليا، ومسؤوليته المباشرة تجاه شعبه فيما يعانيه، وهو يتطلع باستمرار وعلى الدوام بما يدفع بهم إلى الشوط المتقدم، ودليلي على ما أدعي هو مواقفه الصلبة في مواجهة الهجمة الداعشية والدعوة إلى الجهاد الكفائي في ظل تقنين حاذق ومدروس ومنظم أيّما تنظيم بعيد كل البعد عن العبثية والعشوائية، واضعاً الشيء في موضعه، وذلك عندما جعل التطوع لمقاتلة الأعداء عبر القنوات الرسمية والمركزية، وكأن سماحته - وهو كذلك – يُشخص العلة، يقف على الألم، ويضع يده على الداء، ليحكم له الدواء بكل حنكة وحَذق، وهو بالتأكيد ينظر بمنظار الوعي للأوضاع واستيعابه لتحديات الظرف المحيط ومتطلبات المرحلة، لتعطي هذه الفتوى ثمارها وأكلها، فقد أدرك السيد المرجع بذائقته وبنظرته القيادية الثاقبة، وفراسته الواسعة.. إنه لا سبيل في ردع هؤلاء المتوحشين في هيئة الآدميين إلا تحركاً جهادياً واصطداماً عسكرياً، يصدّ العادي ويستأصل مغرزه، حاثاً من أجل ذلك المجاهدين بأخذ مواقع الهجوم بدلاً عن الدفاع، والذي يُحسن لفت النظر إليه إن سماحته بتلك الفتوى المُتفوزة لصد خطط الظالمين كان قد ضرب بحجرٍ واحدٍ عصفورين، إذ استخدم سماحته سلاحاً من جنس أسلحة الأعداء وهو الإعلام وبث الرعب في القلوب من جهة، ومن أخرى استدرج ضمائر بعض أفراد القوات الأمنية التي مُنيت نفوسهم بالهزيمة وتراجعت معنوياتهم، فعندما قال عبر وكيله الشيخ عبد المهدي الكربلائي: (يا أبناء القوات المسلحة، إنكم أمام مسؤولية تاريخية وشرعية وليكون دافعكم هو الدفاع عن حرمات العراق وصيانة المقدسات ودفع الشر عن هذا البلد المظلوم وشعبه الجريح، وتؤكد المرجعية دعمها وإسنادها لأبناء القوات المسلحة وتحثّهم على التحلّي بالشجاعة والبسالة والثبات والصبر وإن من يضحي منكم يكون شهيداً إن شاء الله)، فكانت تلك الفتوى كالعلاج الناجع الذي يسري في جسد المريض لينعشه ويعيد له الصحة بعد تمكن مرضه منه، فالمتأمل بأبعاد وأعماق شخص سماحة السيد السيستاني يجد من الشمولية والموسوعية ودقة النظر ورصانة الرأي وكأنك بين يدي خبير إستراتيجي في وعيه وإحاطته وتصديره للمواقف والتي لا أراها إلا حكيمة وصائبة وفي محلها المناسب.
فلا أغالي البتة إذا نصبته صمام الأمن والأمان للبلاد
ولا أبالغ إذا اعتبرته مقوي شوكة المؤمنين ورافعاً بهم إلى نجد
ولا أتجاوز الحقيقة إذا قلت إنه بلسمٌ لجراحات بليغة ألمت بنا