صفات أخلاقية لاستكمال الإيمان
هناك سمات وميزات كثيرة تميز المؤمن الصالح من غيره، تؤهله لبلوغ أعلى مراتب الكمال والرقي، وتجعله المحور الأساس في نجاح مسيرة الحياة، والوصول إلى أعظم الغايات الإنسانية، فضلاً عن تأهيله لحمل مشعل الخير والصلاح في الأمة .
ولعل من أعظم تلك السمات وأكثرها فعالية وتأثيراً في نفس المؤمن ومن يحيط به ما حثت عليه الكثير من الوصايا والتوجيهات القيّمة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث جعلوا من مهمة بناء شخصية المؤمن الرسالية الهدف الأول في حركتهم المباركة ومشروعهم الإلهي، وقدموا كل ما من شأنه أن يخدم الدين، وينفع الناس ويشيع الفضيلة والوئام بينهم.
وعلى هذا الأساس، شرع تاسع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ومنذ بدايات عمره الشريف بأداء هذه المهمة الشريفة، وذلك عبر جملة من الوصايا الشريفة التي قدمها كمنهاج لبناء الذات للفرد المسلم المستكملة لشروط الإيمان كافة، وممارسة دوره وفقاً لما رسمته الشريعة المقدسة، ومن ثم الانطلاق نحو القاعدة الأوسع المتمثلة بالمجتمع ككل.
ومن أهم تلك اللمحات المضيئة التي تحمل معاني كثيرة تؤسس لعلاقة وطيدة بين العبد وربه، ويستكمل من خلالها إيمانه قوله(عليه السلام):( أربع من كن فيه استكمل إيمانه: من أعطى لله، ومنع في الله، وأحب لله، وأبغض فيه) ، حيث يُخاطب (عليه السلام) من خلال هذه المفردات البليغة أبناء الأمة ويدعوهم إلى اتباع نهج سليم واضح المعالم يستند إلى أسس عقائدية رصينة أربعة هي:(العطاء والمنع والحب والبغض)، فلو أمعنا النظر والتدبر في كل مفردة من هذه المفردات نجدها ـ إذا ما وظفت في مرضاة الله تعالى ـ سلوكاً إيمانياً راقياً يسمو بروح العبد إلى أرقى الدرجات، فالعطاء الذي يشير إليه الإمام (عليه السلام) هو البذل والإنفاق بشقيه المادي والمعنوي الذي يصب في مرضاة الله تعالى عبر السبل المشروعة التي أقرتها الشريعة المقدسة، وهذا ما نستشفه من دقة تعبير الإمام (عليه السلام) بقوله (أعطى لله)، مثال ذلك أن يعطي العبد من ماله الحلال إلى من يستحقه من الفقراء والمعوزين ابتغاء مرضاة الله تعالى ونيل القبول عنده، وكذا الحال فيما يخص العطاء في الجوانب المعنوية كتوظيف الجاه والمكانة المرموقة، والقوى الذهنية والبدنية لخدمة الآخرين والسعي في قضاء حوائجهم، فضلاً عما يدخل تحت مظلة هذا السلوك الإيماني من آداب حسنة يبديها المؤمن لإخوانه كطلاقة الوجه وحسن المعاشرة والتودد إليهم وهذا ما أكده الكثير من الوصايا المروية عن أئمة أهل البيت(عليه السلام) كقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (أول المروة طلاقة الوجه وآخرها التودد إلى الناس) .
أما المنع الوارد في حديث الإمام (عليه السلام) بصيغة (منع في الله)، فهو تأكيد واضح منه على منع العطاء وعدم الإنفاق ـ وبكل أشكاله ـ في الموارد والمجالات المخالفة لأمر الله تعالى والتي توجب غضبه وسخطه، فضلاً عن الابتعاد عن مواطن الشبهة والشك في هذا السياق. والمصاديق كثيرة في هذا الجانب، لعل أبرزها الإنفاق على الملذات الدنيوية المحرمة، وإشباع الغرائز النفسية بما حرمه الله تعالى. هذا على الصعيد المادي، أما في الجانب المعنوي فالشواهد والأمثلة هي الأخرى غزيرة أبرزها توظيف الجاه والمنصب والمكانة الاجتماعية لأغراض محرمة ومشبوهة، ومن هنا جاء هذا القيد والشرط الإيماني، حيث عده الإمام (عليه السلام) من موجبات استكمال الإيمان.
أما حالة (الحب لله والبغض فيه) التي وردت في حديث إمامنا الجواد (عليه السلام) فهي الأخرى تؤشر أساسين أو شَرطَين مهمين لاستكمال المرء لمقتضيات الإيمان. الأول يتمثل في تفعيل علاقة المرء بربه سعياً للوصول إلى أقصى درجاتها من خلال حب كل توجه أو سلوك أو عمل يَصب في مرضاة الله تعالى، فلا ريب أن كل ذلك متعلق به سبحانه وتعالى ومنسوب إليه، وهناك شواهد كثيرة يمكن أن تؤكد هذا المعنى منها حب كل من يسارع في الخيرات، ويسعى إلى خدمة عباد الله تعالى، فالتودد لمثل هكذا أشخاص، وحب عملهم لا شك يعد حباً لله تعالى، لأن هذه الأفعال بجملتها توجب القرب من الله تعالى، وهو ما يسعى إليه كل مؤمن، وأما البغض في الله فهو خُلق لا بد للمؤمن أن يتخلق به إذا كان متبنياً لمبدأ الحب لله تعالى، فقبال كل حب في الله كحب المطيعين له والمحسنين لعباده يتوجب على المؤمن أن يبدي معالم البغض في الله ويمقت كل إنسان يقوم بسلوك أو عمل فيه معصية لله وإساءة لخلقه..
خلاصة القول، يتبين لنا مما سبق أن هذه الوصية المباركة تعكس اهتمام إمامنا الجواد (عليه السلام) بنشر المعارف والعلوم الإسلامية، وبث مكارم الأخلاق ونهج السبل المثلى للوصول إلى مرضاة الله تعالى، وذلك امتثالاً للأمر الإلهي وبما تقتضيه المرحلة من سلوك وحكمة ومعرفة بخفايا الأمور.