بذل المُهج
غايات المرء ونواياه مطمورة في أعماق نفسه، تخالج قلبه وتدور في لفائف عقله, وما يبديه لسانه من تصريحات رنانة وتعابير منمقة ليست بالضرورة أن تكون مطابقة لما هو مخبوء في فؤاده متناسياً بأنها لا تُخفى على الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فيجازيه على أساسها.
وكلنا يعرف بأن القتال والحرب من الأمور التي يصعب على الإنسان تحملها فهو يُخاطر ويضحي بنفسه التي هي أغلى ما يملكه, وهذا ما صرّحت به الآية القرآنية: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) , والله سبحانه وحده هو الذي يعلم ما في نفوس المقاتلين ولأي غاية يقاتلون, فمنهم من يتخاذل ويفر هارباً في بداية المواجهة, وآخر يقاتل مجبراً وعلى مضض, ومنهم الذي يحارب من أجل المصالح الشخصية أو الحصول على جاه أو مال أو غنائم, ومنهم الذي يرخص نفسه ودمه في سبيل غاية سامية وإعلاء كلمة الحق ونصرة الله سبحانه من خلال نصرة رسله وأوليائه (عليهم السلام), فهذا المقاتل ومن كان يسير على نهجه يترجمون ما يضمرون بتضحيتهم بأنفسهم بصدق وإخلاص وعقيدة راسخة لا يهابون الموت ولا يفرون منه ولا يخافون في الله لومة لائم, ولا يغرر بهم المال أو الجاه, قال تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) .
فهذا الإمام الحسين (عليه السلام) عندما أراد أن يدحر الظلم والظالمين دعا الناس إلى نصرته وبيّن لهم ما سيلاقونه من اختبارات وبلاءات, وسألهم إذا ما كانوا مستعدين لبذل المهج ـ أي دماء قلوبهم التي من دونها تعدم الحياة- من أجل هذه المهمة العظيمة التي سيخرج من أجلها مضحياً, وواعدهم بالجزاء الأوفى, إذ قال لهم مخاطباً: (رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين لن تشذ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقربهم عينه وينجز بهم وعده من كان باذلا فينا مهجته، وموطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا) , فلم يخرج معه سوى ثلة قليلة من هذه الأمة الكبيرة, وهم قوم اختارهم الله سبحانه واختصهم بهذه المنزلة العظيمة وهذا الشرف العظيم ليكونوا بجوار إمامهم أبا الأحرار (عليه السلام) في الدنيا ومعه في جنان الخلد في الآخرة, لأنهم أخلصوا له في نياتهم وأظهروا ثباتهم على المبادئ وضحوا لآخر نفس من أنفاسهم الشريفة غير آبهين بشراسة العدو وهيمنته, فقد أخبر الإمام الحسين أخته السيدة زينب (عليهم السلام) عن ثبات أصحابه ووفائهم له قائلاً: (يا أختاه اعلمي، إن هؤلاء أصحابي من عالم الذر، وبهم وعدني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)) .
من هنا كان لهذه الصفوة المباركة فضل كبير على الأمة جمعاء لأنها نصرت بوقفتها المشرفة إمامها الحسين(عليه السلام) ودينها الحنيف، ونصرت أئمتها حتى قائمهم المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، وهذا ما بيّنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: (ولدي حسين يقتل بطف كربلاء غريبا وحيدا عطشانا فريدا، فمن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيمة) , ذلك لأن قضية الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وثورته هي امتداد لثورة جده الإمام الحسين(عليه السلام) ومكملة لها, فالهداف واحد وهو إحياء دين الله تعالى والقضاء على سلاطين الكفر والظلم, ففي حديث لسيد الشهداء مع ابنه (عليهما السلام) قال: (يا ولدي يا علي والله لا يسكن دمي حتى يبعث الله المهدي فيقتل على دمي من المنافقين الكفرة الفسقة سبعين ألفا) , وأصحاب الإمام القائم (عجل الله فرجه) هم أيضاً قومٌ انتخبهم الله سبحانه وأدّخرهم لنصرته كما اصطفى أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) من قبل, لما أبدوه من خلوص النية والاستعداد الكبير للجهاد والقتال وتحمّل كافة الظروف والخطوب وبذل الأنفس في سبيل الله تعالى ونصرة أوليائه, فإمامنا المهدي (عجل الله فرجه) سينادي بعد ظهوره المبارك على أصحابه قائلاً: (يا معاشر نقبائي وأهل خاصتي ومن ذخرهم الله لنصرتي قبل ظهوري على وجه الأرض ائتوني طائعين) .
إذن لابد لنا الآن من تهيئة نفوسنا وإعدادها إعداداً سليماً من خلال إصلاح سرائرنا وسلوكنا ونحذو حذو أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) لكي نكون جنوداً أوفياء تحت راية المصلح الإلهي (عجل الله فرجه) ودولته الحق, لأن نصر القائد في المعركة يتكلل بوجود جنود مخلصين طائعين كارين غير فارين ولا متخاذلين عند احتدام المعارك واشتداد الصراع.