رصاصة واحدة
أخذت جواز السفر وحقيبتي التي حوت كل أحلامي وآمالي لأرحل بلا رجعة, سئمت من هذا البلد, لكن ما بال هذا الباب اللعين لا تُفتح أقفاله؟ وهناك قبضت يداه النابضة بالحنان على يدي, ونظر بعينه المغرورقة بالدموع وتوسل إليّ بنبرات يملئها الحزن ليقنعني على التراجع والاستسلام: إلى أين تذهب يا ولدي؟ لماذا تريد الرحيل وأنى لك ترك الديار والوطن؟
أجبت بمرارة : أبتاه طالما تمنيت أن أعيش برفاهية وأنعم بحياة رغيدة يتوجها الأمان والسلام بعيداً عن أجواء الحروب ودوي القنابل والمتفجرات, وألتحف براحة البال فلا حر يؤرقني ولا برد يؤذيني, وأتجول في الشوارع كما يحلو لي فلا تحدني الخطوط الحمراء ولا الخضراء ولا غيرها ولا حواجز تمنعني ولا أفكر بمرور السيارات المفخخة بقربي لتنهي حياتي وتحصد أرواح الأبرياء من حولي, فكل يوم تتجدد معاناتي مع هذا البلد الذي لم ينعم يوماً بالسلام وظروفه القاسية لم تؤمن لي أبسط مقومات الحياة, واليوم ينادوننا بالدفاع عنه كيف ننقذ بلداً قد مات وهدت أركانه وقُتل معظم أهله والبقية يعانون من اليُتم والفقر والحرمان ينتظرون دورهم لكي يموتوا لا محالة؟ سوف أهاجر وأبحث عن وطن ثان افترش فيه أحلامي وحياة أفضل أحقق بها آمالي, فهذا هو السبيل الأمثل والخيار الأوحد لي للخلاص من هذا الجحيم, أتركني يا أبتاه وأفتح لي الباب لن أغير رأيي أبداً.
فرمقني بنظرة قبل فتحه للباب قطعت نياط قلبي وجعلتني أخرج مسرعاً لأستقل سيارة تنقلني إلى المطار لكي لا أتراجع في قراري, كان السائق رجلاً قد نقش الزمن على وجهه تجاعيد الوقار ولونت الهموم شعره بالبياض, وهناك بدأ يسألني وكأنه عرف ما بداخلي: هل رحلتك للدراسة أم للعمل؟ فقلت له : لا بل للهجرة بلا عودة.
فقال لي متعجباً: ولكن وطنك يناديك لتدافع عنه فقد أعلنوا الجهاد وهذه فرصة ثمينة وشرف لا يناله إلا ذو حظ عظيم.
أجبته بيأس: رصاصة واحدة لا تكفي, وأنا لا أغير شيئاً.
أجابني: لنفترض أن أباك قد أصيب بمرض شديد لا سمح الله حتى لو كان لديك أخوة هل ستتركه وترحل عنه؟ أنا متأكد بأنكم ستقفون كلكم على قدم وساق من أجل رعايته لحين تماثله للشفاء, والوطن كذلك محتاج الآن لكل أبنائه لكي ينقذوه من محنته التي يعاني منها, فلا تستهين بعمل رصاصة واحدة فأنها تقتل أو تعيق, ولا تقيس بالعدد والعُدة قال تعالى: (كم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
كان كلامه منطقياً لكنني حاولت أن أبرر موقفي فقلت له: مذ فتحت عيني على الدنيا والبلد يعاني من نكبات وأزمات وحروب إلى متى نظل نحارب ونتحمل بلا جدوى؟
فقال لي بحرقة قلب يا بني : كنا في زمن النظام السابق تحت قبضة من حديد وكان القمع والتنكيل والظلم والكبت ما له نظير وعلى الرغم من هذا صمدت وبقيت أناضل وسجنت مرات عديدة وها هي آثار التعذيب منقوشة على جسدي حتى أموالي صودرت وقُتل أهلي الواحد تلو الآخر ولم أتخاذل وأيأس يوماً وأفكر بالهروب, فهذا بلدنا وواجب علينا أن نتعايش معه بكل ظروفه وندافع عنه بكل ما أوتينا من قوة ونحمي مقدساتنا وأعراضنا, فإذا هربت أنت, وتخاذل آخر, وامتنع ذاك, فمن الملام حينئذ إذا غزانا الأعداء واستباحوا أراضينا وأهلينا؟ وموتنا بعز مع شرف نيل الشهادة خير لنا من الحياة بذل وغربة في بلد آخر, أسألك بالله العظيم هل يهنئ لك عيش أو يهدأ لك بال هناك وأبناء جلدتك يقاتلون ويقتلون وأهلك بعيدون عنك يعانون؟.
طأطأت رأسي خجلاً وندامة ودمعت عيناي وقلت له: أرجعني من حيث أخذتني, لقد أيقظتني من غفلتي وأنقذتني من التيه, وأفشلت خطط الأعداء الذين يحاولون تثبيط عزيمتنا في القتال وإجبارنا على الفرار وترك الديار.